أول من حفر بئر زمزم

عنوان المقال: أول من حفر زمزم

تمهيد تاريخي حول بئر زمزم

بئر زمزم ليس مجرد مصدر مائي عادي في قلب مكة المكرمة، بل هو معلم روحي وتاريخي له رمزية عظيمة في وجدان المسلمين قاطبة، ومكانة بارزة في كتب السيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي. يرتبط اسم زمزم بسياقات دينية، وشخصيات تاريخية عظيمة من الأنبياء والصالحين، وتفاصيل تتجاوز الزمن لتشكّل وحدة رمزية بين العقيدة والمكان. وتبدأ القصة منذ عصور نبوية غابرة، في مشهد إنساني مؤثر يتعلّق بالأمومة، وبالاحتساب، وبالثقة بالله.

في هذا المقال، سيتم التطرق إلى هوية أول من حفر بئر زمزم، والسياق التاريخي الذي تم فيه ذلك، والمراحل التي مر بها البئر عبر العصور، وأهميته الدينية والجيولوجية، وأبرز ما ذكرته كتب السيرة والتفسير، لنقدم صورة متكاملة عن هذا النبع المبارك.

قصة نشأة بئر زمزم: هاجر وإسماعيل عليهما السلام

ترجع أصول بئر زمزم إلى قصة النبي إبراهيم عليه السلام وزوجته هاجر وابنهما إسماعيل. حين ترك إبراهيم عليه السلام، بأمر من الله، زوجته وابنه الرضيع في وادٍ غير ذي زرع عند البيت الحرام، لم يكن هناك ما يروي عطشهم أو يسد رمقهم. وبينما كانت هاجر تركض بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء، انفجرت عين زمزم تحت قدم رضيعها إسماعيل عليه السلام، حين ضرب الأرض بقدمه، أو بحسب روايات أخرى حين خبط جبريل الأرض بجناحه.

في هذا السياق، لم تُحفر زمزم في بادئ الأمر على يد بشر، بل كانت عينًا تفجرت بمعجزة إلهية، وبهذا فإن أول ظهور لها لم يكن بالحفر، بل بالتفجّر. غير أن البئر كانت تحتاج لاحقًا إلى ترميم، إعادة حفر، وصيانة.

أول من حفر بئر زمزم بعد اندثارها: عبد المطلب بن هاشم

بعد قرون طويلة من اندثار معالم البئر، تعود كتب السيرة والتاريخ لتوثق أن أول من أعاد حفر بئر زمزم بعد طمرها وغياب أثرها كان عبد المطلب بن هاشم، جد النبي محمد ﷺ.

وقد ذكر ابن إسحاق والطبري وغيرهما أن البئر كانت قد طُمرت بفعل عوامل طبيعية وتدخلات بشرية أثناء وجود قبائل جرهم وخزاعة في مكة. وظلت زمزم مطمورة حتى جاءت لحظة فارقة في تاريخ مكة، عندما رأى عبد المطلب رؤيا متكررة في منامه تأمره بحفر بئر زمزم في موقع محدد قرب الكعبة.

رؤيا عبد المطلب ودلالاتها

جاء في الروايات أن عبد المطلب رأى في منامه رجلًا يأمره أن يحفر “زمزم”، وعندما سأل عن معنى ذلك، قال له: “لا تُمل ولا تُذل، تسقي الحجيج الأعزل، وهي بين الفرث والدم”. فكان هذا تعبيرًا رمزيًا عن وجود البئر في موضع يُستخدم لنحر القرابين، وتحديدًا بين الفرث والدم.

استيقظ عبد المطلب مؤمنًا بما رآه، وبدأ عملية الحفر في الموضع المشار إليه، رغم سخرية قريش واستهزائهم به، لأنه لم يكن لديه سوى ابنه الوحيد في ذلك الوقت، الحارث، يساعده على الحفر.

اكتشاف البئر مجددًا

بعد الحفر المستمر، بدأ الماء يتفجر من الأرض، فهتفت قريش وذهلت مما رأت. وسرعان ما أصبحت زمزم مرة أخرى مصدرًا مائيًا لا ينضب، وخيرًا يتدفق للحجيج والمقيمين، ما أعاد لمكة مكانتها كوجهة للناس.

وقد وجدت عبد المطلب كنوزًا مدفونة عند الحفر، منها سيوف ودروع وتماثيل ذهبية كانت من عهد قبيلة جرهم، فقام بتوزيعها وفق تقاليد المجتمع القرشي آنذاك، وأوقف البئر على خدمة الحجاج.

النزاع حول ملكية زمزم

بسبب أهمية بئر زمزم وارتباطها بالشرف والمكانة، نشأ نزاع بين عبد المطلب وبعض قبائل قريش حول ملكيتها، وطالبوه بأن يكون لهم نصيب فيها، إلا أنه رفض ذلك. واحتكموا إلى أحد الكهان خارج مكة، لكن الله أعز عبد المطلب وأظهر الحق معه، فثبتت له ملكية زمزم وخدمة الحجيج.

هذا الحدث ساعد في ترسيخ مكانة عبد المطلب بين قريش، وعزز من هيبة بني هاشم، فصار السقاية والرفادة في يدهم، وهي المهام التي حفظت لهم قداسة رمزية حتى ظهور الإسلام.

وصف بئر زمزم جغرافيًا وهيدرولوجيًا

يقع بئر زمزم داخل الحرم المكي، على بعد 21 مترًا شرقي الكعبة المشرفة. يبلغ عمقه الإجمالي نحو 30 مترًا. يُغذّى البئر من مصدرين رئيسيين من المياه الجوفية، الأول من اتجاه الكعبة، والثاني من جهة الصفا والمروة.

الماء الذي يخرج من البئر معروف بتركيبه الكيميائي الفريد، إذ يحتوي على نسب متوازنة من الأملاح والمعادن، ويمتاز بصفائه واستمرارية تدفقه، رغم ملايين الليترات التي تُستهلك منه سنويًا.

وقد أثبتت دراسات علمية عديدة أن ماء زمزم خالٍ من البكتيريا الضارة، ولا يتغيّر طعمه أو لونه أو رائحته مع مرور الوقت.

الخصائص الروحية لماء زمزم

وردت في السنة النبوية عدة أحاديث صحيحة تؤكد على فضل ماء زمزم، منها ما رواه ابن ماجه عن النبي ﷺ أنه قال: “ماء زمزم لما شُرب له”، وهذا الحديث يدل على أن نية الشارب تلعب دورًا في تحقق الفوائد المرجوة، سواء كانت شفاء، أو علمًا، أو رزقًا.

وقد شرب منها الصحابة والتابعون وأوصوا بها، وكان من عادة العلماء أن يشربوها بنيّة تحصيل العلم، كما فعل الإمام الشافعي.

مراحل التطوير والصيانة للبئر عبر العصور

شهد بئر زمزم مراحل متعددة من العناية والصيانة منذ عصر الخلفاء الراشدين حتى العصر الحديث، حيث أولاه الخلفاء والملوك رعاية عظيمة، وتم تطوير طرق السقاية واستخدام تقنيات حديثة لضخ المياه وتوزيعها.

زمزم في وجدان الأمة الإسلامية

ارتبط بئر زمزم برمزية قوية تتجاوز حدود المادة، فهو مصدر للطاقة الروحية، ومكان يستشعر فيه الحاج والمعتمر اتصالًا بالأنبياء والتاريخ المقدس. ماء زمزم ليس ماءً عاديًا، بل يحمل في ذاكرة الأمة معنى الوفاء الإلهي، والكرامة الإنسانية التي تجسدت في موقف هاجر وهي تبحث عن الماء، فكان جزاؤها أن تفجرت لها عين لا تنضب، يشرب منها مليارات الناس حتى يومنا هذا.

الخاتمة

بئر زمزم ليس معلمًا مائيًا فحسب، بل هو امتداد لعقيدة التوحيد، وتاريخ من النبوة، وعقيدة الصبر والتسليم. أول من تفجرت له زمزم هو إسماعيل عليه السلام بأمر من الله، وأول من حفرها مجددًا بعد طمرها هو عبد المطلب بن هاشم، الذي أصبح رمزًا للحكمة والإيمان والقيادة. ومنذ ذلك الزمن، ظل زمزم شاهدًا على تعاقب الحضارات الإسلامية، وتطور البنية التحتية في الحرم، دون أن يفقد مكانته الروحية أو يتوقف ماؤه.

المصادر:

1. ابن هشام، السيرة النبوية.

2. الطبري، تاريخ الأمم والملوك.